الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وليس مثلَه. وقيل: أي الله بمعنى أمْرُه. ويجوز على قياسِ هذا الوجهِ أَنْ يكونَ {عالمُ} فاعلًا ل {يَأْتَيَنَّكم} في قراءةِ مَنْ رفعه.قوله: {عالم} قرأ الأخَوان {عَلاّم} على صيغة المبالغة وخفضِه نعتًا ل رَبِّي أو بدلًا منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقًا. ونافع وابن عامر {عالمُ} بالرفع على هو عالم أو على أنه مبتدأٌ، وخبره {لا يَعْزُب} أو على أنَّ خبرَه مضمرٌ أي هو. ذكره الحوفي. وفيه بُعْد. والباقون {عالم} بالخفض على ما تقدَّم. وإذا جُعِل نعتًا فلابد مِنْ تقدير تعريفِه. وقد تقدَّم أنَّ كلَّ صفةٍ يجوزُ أن تتعرَّفَ بالإِضافةِ إلاَّ الصفةَ المشبهةَ. وتقدَّمتْ قراءتا {يَعْزُب} في سورةِ يونس.قوله: {ولا أَصْغَرُ} العامَّةُ على رفعِ {أصغر} و {أكبر}. وفيه وجهان، أحدُهما: الابتداء، والخبرُ {إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. والثاني: النسقُ على {مثقالُ} وعلى هذا فيكونُ {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} تأكيدًا للنفيِ في {لا يَعْزُبُ} كأنه قال: لكنه في كتاب مُبين.وقرأ قتادةُ والأعمش، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ونافع أيضًا، بفتح الراءيْن. وفيهما وجهان، أحدهما: أنها لا التبرئةُ بُني اسمُها معها. والخبرُ قولُه: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ}. الثاني: النسقُ على {ذَرَّةٍ}. وتقدَّم في يونس أنَّ حمزةَ قرأ بفتح راء {أصغر} و {أكبر} وهنا وافقَ على الرفع. وتقدَّم البحثُ هناك مُشْبَعًا. قال الزمخشري: فإن قلتَ: هَلاَّ جاز عطفُ {ولا أصغرُ} على {مثقال} وعطف {ولا أكبرَ} على {ذَرَّة}. قلت: يَأْبَى ذلك حرفُ الاستثناء إلاَّ إذا جَعَلْتَ الضميرَ في {عنه} للغيبِ، وجَعَلْتَ {الغيب} اسمًا للخَفِيَّات قبل أنْ تُكتبَ في اللَّوْح؛ لأنَّ إثباتَها في اللوحِ نوعٌ من البروزِ عن الحجاب على معنى: أنه لا يَنْفَصِلُ عن الغيب شيءٌ ولا يَزِلُّ عنه إلاَّ مَسْطورًا في اللوح. قال الشيخ: ولا يُحتاجُ إلى هذا التأويلِ إذا جَعَلْنا الكتابَ ليس اللوحَ المحفوظ.وقرأ زيد بن علي بخفض راءيْ {أصغر} و {أكبر} وهي مُشْكلةٌ جدًا. وخُرِّجَتْ على أنهما في نية الإِضافة؛ إذ الأصلُ: ولا أصغرِه ولا أكبره، وما لا ينصرف إذا أُضيفَ انْجَرَّ في موضعِ الجرِّ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه ونُوي معناه فَتُرِك المضَافُ بحالِه، وله نظائرُ كقولهم: وقوله: على خلافٍ. وقد يُفَرَّقُ: بأن هناك ما يَدُلُّ على المحذوفِ لفظًا بخلاف هنا. وقد رَدَّ بعضُهم هذا التخريجَ لوجود مِنْ؛ لأنَّ أفعلَ متى أُضيف لم يجامِعْ مِنْ. وأُجيب عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنَّ مِنْ ليسَتْ متعلقةً ب أَفْعَل؛ بل بمحذوفٍ على سبيل البيانِ لأنه لَمَّا حُذِفَ المضافُ إليه انبهم المضافُ فتبَيَّن ب مِنْ ومجرورِها أي: أعني من ذلك. والثاني: أنَّه مع تقديرِه للمضافِ إليه نُوي طَرْحُه، فلذلك أُتي ب مِنْ. ويدلُّ على ذلك أنه قد وَرَدَ التصريحُ بالإِضافةِ مع وجود مِنْ قال الشاعر: وخُرِّجَ على هذين الوجهين: إمَّا التعلُّقِ بمحذوفٍ، وإمَّا نيةِ اطِّراحِ المضاف إليه. قلت: وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين أل ومِنْ في أفعلَ كقوله: وهذه توجيهاتُ شذوذٍ، لا يُطْلَبُ فيها أكثرُ مِنْ ذلك فلْيُقْنَعْ بمثله. {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}.قوله: {لِّيَجْزِيَ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه متعلِّقٌ ب لا يَعْزُب. وقال أبو البقاء: يتعلَّقُ بمعنى لا يَعْزُب، أي يُحْصي ذلك ليَجزيَ وهو حسنٌ، أو بقوله: {لتَأْتِيَنَّكم} أو بالعاملِ في قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} أي: إلاَّ استقرَّ ذلك في كتاب مبينٍ ليجْزِيَ. وتقدم في الحج قراءتا {مُعاجزين}. {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}.قوله: {أَلِيمٌ} قرأ ابن كثير وحفص هنا، وفي الجاثية، {أليمٌ} بالرفع. والباقون بالخفض. فالرفعُ على أنه نعتٌ ل {عذاب} والخفضُ على أنه نعتٌ ل {رِجْز} إلاَّ أن مكيًَّا ضَعَّفَ قراءةَ الرفعِ واستبعدها قال: لأنَّ الرِّجْزَ هو العذابُ فيصير التقديرُ: عذابٌ أليمٌ مِنْ عذاب، وهذا معنى غيرُ متَمكِّنٍ. قال: والاختيارُ خفضُ {أليم} لأنه أصَحُّ في التقدير والمعنى؛ إذ تقديرُه: لهم عذاب مِنْ عذاب أليم، أي: هذا الصنفُ مِنْ أصنافِ العذابِ لأنَّ العذابَ بعضُه آلمُ مِنْ بعض. قلت: وقد أُجيبَ عَمَّا قاله مكيٌّ: بأنَّ الرِّجْزَ مُطلق العذاب، فكأنه قيل لهم: هذا الصنفُ من العذابِ من جنسِ العذاب. وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال: وبالرفعِ صفةً ل {عذاب} والرِّجْزُ مُطْلَقُ العذابِ.قوله: {والذين سَعَوْا} يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنها مبتدأٌ و {أولئك} وما بعده خبرُه. والثاني: أنه عطفٌ على الذين قبلَه أي: ويَجْزي الذين سَعَوْا، ويكون {أولئك} الذي بعده مستأنفًا، و {أولئك} الذي قبله وما في حَيِّزه معترضًا بين المتعاطفَيْن. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}.قوله: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} فيه وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على {ليَجْزِيَ} قال الزمخشري: أي: وليعلمَ الذين أُوتُوا العِلْمَ عند مجيءِ الساعة. قلت: إنما قَيَّده بقولِه: عند مجيءِ السَّاعةِ لأنه عَلَّق {ليجزيَ} بقوله: {لتأتينَّكم} فبنى هذا عليه، وهو من أحسنِ ترتيب. والثاني: أنه مستأنَفٌ أخبر عنهم بذلك، و {الذي أُنْزِلَ} هو المفعول الأولُ و {هو} فصلٌ و {الحقَّ} مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الرؤيةَ عِْلمية.وقرأ ابن أبي عبلة {الحقُ} بالرفع على أنه خبرُ {هو}. والجملةُ في موضعِ المفعول الثاني وهو لغةُ تميمٍ، يجعلون ما هو فصلٌ مبتدًا، و {مِنْ رَبِّك} حالٌ على القراءتين.قوله: {ويَهْدِي} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستأنفٌ. وفي فاعله احتمالان، أظهرهما: أنه ضميرُ الذي أُنْزِل. والثاني: ضميرُ اسمِ الله ويَقْلَقُ هذا لقولِه إلى صراط العزيز؛ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صراطه. ويُجاب: بأنه مِنْ الالتفاتِ، ومِنْ إبرازِ المضمر ظاهرًا تنبيهًا على وَصْفِه بها بين الصفتين.الثاني من الأوجه المتقدمة: أنه معطوفٌ على موضع {الحقَّ} وأَنْ معه مضمرةٌ تقديره: هو الحقَّ والهداية.الثالث: أنه عطفٌ على {الحق} عطفُ فعلٍ على اسم لأنه في تأويلِه كقوله تعالى: {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أي: وقابضاتٍ، كما عُطِفَ الاسمُ على الفعلِ لأن الفعلَ بمعناه.كقول الشاعر: كأنه قيل: ولِيَروْه الحقَّ وهاديًا.الرابع: أنَّ {ويَهْدي} حالٌ من {الذي أُنْزِل} ولابد من إضمارِ مبتدأ أي: وهو يَهْدي نحو: وهو قليلٌ جدًا. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}.قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ} {إذا} منصوبٌ بمقدرٍ أي: تُبْعَثون وتُجْزَوْن وقتَ تمزيقكم لدلالةِ {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} عليه.ولا يجوز أن يكونَ العاملُ {يُنَبِّئكم} لأن التنبئةَ لم تقعْ ذلك الوقتَ. ولا {خَلْقٍ جديدٍ} لأنَّ ما بعد إنَّ لا يعمل فيما قبلها. ومَنْ تَوَسَّعَ في الظرف أجازه. هذا إذا جَعَلْنا {إذا} ظرفًا مَحْضًا. فإنْ جَعَلْناه شرطًا كان جوابُها مقدرًا أي: تُبْعَثون، وهو العاملُ في {إذا} عند جمهور النحاة.وجَوَّز الزجَّاج والنحاس أن يكون معمولًا ل {مُزِّقْتُمْ}. وجعله ابنُ عطية خطًا وإفسادًا للمعنى. قال الشيخ: وليس بخطأ ولا إفسادٍ. وقد اخْتُلف في العامل في {إذا} الشرطية، وبَيَّنَّا في شرح التسهيل أنَّ الصحيحَ أنَّ العامَل فيها فعلُ الشرط كأخواتِها من أسماء الشرط. قلت: لكنَّ الجمهورَ على خلافِه. ثم قال الشيخ: والجملةُ الشرطيةُ يُحتمل أَنْ تكونَ معمولة ل {يُنَبِّئُكم} لأنه في معنى: يقول لكم إذا مُزِّقْتُمْ: تُبْعَثُون. ثم أكَّد ذلك بقوله: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. ويُحتمل أن يكون {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ} مُعلِّقًا ل {يُنَبِّئكم} سادًّا مَسَدَّ المفعولين، ولولا اللام لفُتِحَتْ إنَّ وعلى هذا فجملةُ الشرطِ اعتراضٌ. وقد منع قومٌ التعليقَ في {أعلم} وبابِها، والصحيحُ جوازُه. قال: وقرأ زيد بن علي بإبدالِ الهمزةِ ياء. وعنه {يُنْبِئُكم} من أَنْبأ كأكرم.ومُمَزَّقٌ فيه وجهان، أحدهما: أنه اسمُ مصدرٍ، وهو قياسُ كلِّ ما زاد على الثلاثة أي: يجيءُ مصدرُه وزمانُه ومكانُه على زِنَةِ اسم مفعولِه أي: كلَّ تمزيق. والثاني: أنه ظرفُ مكانٍ. قاله الزمخشري، أي: كلَّ مكانِ تمزيقٍ من القبورِ وبطون الوَحْشِ والطير. ومِنْ مجيءِ مُفَعَّل مجيءَ التفعيلِ قوله: أي: تَسْريحي. والتَّمْزِيق: التخريقُ والتقطيع. يُقال: ثوب مُمَزَّق ومَمْزوق. ويُقال: مَزَقه فهو مازِقٌ ومَزِقٌ أيضًا. قال: وقال الممزق العبدي- وبه سُمِّي المُمَزَّق: أي: ولما أُبْلَ وأُفْنَ.و {جديد} عند البصريين بمعنى فاعِل يقال: جَدَّ الشيءُ فهو جادُّ وجديد، وعند الكوفيين بمعنى مفعول مِنْ جَدَدْتُه أي: قَطَعْتُه. {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}.قوله: {أفترى} هذه همزةُ استفهامٍ. وحُذِفَتْ لأجلها همزةُ الوصل، فلذلك تَثْبُتُ هذه الهمزةُ وصلًا وابتداء. وبهذه الآيةِ استدلَّ الجاحظُ على أنَّ الكلامَ ثلاثةُ أقسامٍ: صدقٍ، كذبٍ، لا صدقٍ ولا كذبٍ. ووَجْهُ الدلالةِ منه على القسمِ الثالث أنَّ قولَه: {أَم بِهِ جِنَّةٌ} لا جائزٌ أن يكون كذبًا لأنه قسيمُ الكذبِ، وقسيمُ الشَيءِ غيرُه، ولا جائزٌ أن يكون صِدْقًا لأنهم لم يعتقدوه، فثبت قسمٌ ثالث. وقد أجيب عنه بأن المعنى: أم لم يَفْتَرِ. ولكن عَبَّر عن هذا بقولهم {أَم بِهِ جِنَّةٌ} لأن المجنونَ لا افتراء له.والظاهرُ في {أم} هذه متصلةٌ؛ لأنها تتقدَّرُ بأي الشيئين. ويجابُ بأحدِهما، كأنه قيل: أيُّ الشيئين واقعٌ: افتراؤه الكذبَ أم كونُه مجنونًا؟ ولا يَضُرُّكونُها بعدها جملةٌ؛ لأنَّ الجملةَ بتأويلِ المفردِ كقوله: ومثلُه قولُ الآخر: ابن منقر خبرٌ، لا نعت. كذا أنشده بعضُهم مستشهدًا على أنها جملةٌ، وفيه حَذْفُ التنوين مِمَّا قبل ابن وليس بصفةٍ. وقد عَرَفْتَ ما أَشَرْتُ إليه هنا من سورة التوبة. {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}.
|